بِســمِ اللهِ الرَّحمَــن الرَّحِيــم
بعد ظهور نتائج
الحمض النووي ، نشأ صراع عربي كبير حول النتائج الجينية ، فظهرت على السطح ظاهرة
الاستدلال ببعض الأحاديث النبوية في الأنساب ، وهذا في حد ذاته شيء طيب ومقبول
ومشروع . وكان من ضمن الأحاديث التي شاع الاستدلال بها (حديث أبناء سبأ العشرة) ، فأردتُ أن أسلط الضوء على هذا الحديث من الناحية الحديثية ، وأن أُبَيِّن ضعف
إسناده ومتنه .
✿ تنبيهات مهمة قبل الدخول في تفاصيل الدراسة الحديثية :
◕ أولاً : إذا صح الحديث عن النبي ﷺ وجب الأخذ به في الشريعة أو الأنساب
أو الطب ، وفي كل شيء ، فالكل وحي من عند الله ، ولا يجوز لمسلم أن يرد حديث رسول
الله ﷺ .
◕ ثانياً : إن نصوص الشريعة لا تتعارض مع الحقائق العلمية والتاريخية،
ومنها علم الأنساب ، والنص الصحيح لا يعارض العقل الصريح . ولكن حصول التعارض قد
يكون لأمرٍ عارض قائم في أذهاننا ، ولو أعملنا النظر لوجدنا أن لا تعارض بين هذا
وذاك ، ولو فُرِضَ أن حصل تعارض ما ، فإما أن يكون النص الشرعي غير صحيح ، أو أن
المعلومة العلمية غير ثابتة .
◕ ثالثاً : يجب التحري في معرفة صحة الحديث النبوي سنداً ومتناً ،
والحديث الضعيف ليس بحجة لا في الأنساب ولا في غيرها ، فضلاً عن الضعيف جداً
والموضوع . وكثير من الناس يغفل عن هذه الجزئية ، فيكون كحاطب ليل ، فيستدل بأحاديث
لا زمام لها ولا خطام !.
◕ رابعاً : لم ينل هذا الحديث حظه من الدراسة لا قديماً ولا حديثاً ،
اللهم إلا شذرات هنا وهناك ، باعتبار أنه يتعلق بالأنساب ، وقد انصبت اهتمامات
المحدثين العظماء - في الغالب - على العناية بالأحاديث التي ترتبط بالشريعة كأحاديث
الأحكام والعقائد ونحوها .
✿ نص الحديث :
عن فروة بن مسيك
المرادي قال - في سياق قصة -: « ... فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا
سَبَأٌ ، أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ ؟ قَالَ : لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ ،
وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً مِنَ العَرَبِ ، فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ،
وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا : فَلَخْمٌ ،
وَجُذَامُ ، وَغَسَّانُ ، وَعَامِلَةُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا : فَالأُزْدُ ،
وَالأَشْعَرِيُّونَ ، وَحِمْيَرٌ ، وَمَذْحِجٌ ، وَأنْمَارٌ ، وَكِنْدَةُ . فَقَالَ
رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا أَنْمَارٌ ؟ قَالَ : الَّذِينَ مِنْهُمْ
خَثْعَمُ ، وَبَجِيلَةُ » .
✿ الحكم على الحديث :
هذا الحديث ضعيف
سنداً ومتناً ، وسينتظم كلامنا في هذين المسلكين :
المسلك الأول : المسلك السندي :
وسنتناول ضعف
الحديث من ناحية الإسناد من خلال ذِكْرِنا لطرقه المختلفة .
✿ طُرُق الحديث :
هذا الحديث له
عدة طرق عن فروة بن مسيك المرادي-رضي الله عنه -:
❁ الطريق الأول : طريق أبي سبرة النخعي :
أخرجه أبو داود
في "سننه" (4/ 34) ، (برقم : 3988) ، والترمذي في "سننه" (5/
361) ، (برقم : 3222) ، وأحمد في "المسند" (39/527، 528) ، (برقم: 88) ، وفي
"العلل ومعرفة الرجال - رواية ابنه عبد الله" (3/ 430) ، (برقم: 5830)
و(رقم: 5831) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي في "مشيخته" (ص: 108) ، (برقم: 139) ،
وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/225، 226) ، (برقم: 713) ، وابن أبي عاصم في
"الآحاد والمثاني" (3/ 321) ، (برقم: 1699) ، والطبراني في "المعجم
الكبير" (18/ 324) ، (برقم: 836) ، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"
(8/ 454 ، 455) رقم (3379) ، وابن عبد البر في "الإنباه إلى قبائل الرواه"
(ص: 101) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (66/260، 261) ، عن الحسن بن
الحكم ، عن أبي سبرة النخعي ، عن فروة بن مسيك .
وهذا الإسناد
ضعيف، فيه علتان :
● العلة الأولى :
جهالة أبي سبرة عبد الله بن عابس النخعي :
قال يحيى بن معين : (لا أعرفه)(1) .
وقال عنه ابن حجر :
(مقبول)(2) ، يعني عند المتابعة ، وإلا فلين الحديث .
● العلة
الثانية : ضعف أبي الحكم الحسن بن الحكم النخعي :
قال ابن حبان : (يخطىء كثيراً ، ويهم شديداً ، لا
يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد)(3) .
وأورده الذهبي في "ديوان الضعفاء"(4) .
وقال عنه ابن حجر : (صدوق يخطىء)(5) .
❁ الطريق الثاني: طريق البراء بن عبد الرحمن :
أخرجه الطبراني
في المعجم الكبير (18/ 324) ، (برقم: 835) ، وفي مسند الشاميين (1/ 259) ، (برقم:
448) ، عن البراء بن عبد الرحمن ، عن فروة بن مسيك .
وهذا إسنادٌ
ضعيف :
فيه : البراء بن
عبد الرحمن ، وهو رجل مجهول الحال ، لم يذكره أحد من علماء الرجال بجرحٍ ولا تعديل .
❁ الطريق الثالث : طريق يحيى بن هاني :
أخرجه أحمد في "العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه
عبد الله" (3/ 430) ، (برقم: 5829) ، والكلبي في "نسب معد واليمن
الكبير" (1/ 132) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 323) ، (برقم:
834) ، وأبي نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2287) ، (برقم: 5656) ، وفي
"تاريخ أصبهان" (1/ 244) ، وابن قانع في "معجم الصحابة"
(2/336، 337) ، وابن عبد البر في "القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب
والعجم" (ص : 20) ، وفي "الإنباه إلى قبائل الرواه" (ص: 101، 102) ،
عن أبي جناب الكلبي ، عن يحيى بن هاني .
وهذا الطريق
فيه : يحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي من أهل الكوفة .
قال عنه يحيى بن معين : ( ليس بشيء)(6) .
وقال ابن حبان : (كان ممن يدلس على الثقات ما سمع
من الضعفاء ؛ فالتزق به المناكير التي يرويها عن المشاهير ، فوهاه يحيى بن سعيد
القطان ، وحمل عليه أحمد بن حنبل حملاً شديداً)(7) .
وقال الجورقاني : (متروك الحديث)(8) .
❁ الطريق الرابع : طريق سعيد بن أبيض بن حَمَّال المأربي :
أخرجه ابن أبي
عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 322) ، (برقم: 1700) ، و(4/ 418) ، (برقم:
2469) ، والحاكم في "المستدرك" (2/ 460) ، (برقم: 3586) ، والطبراني في
"المعجم الكبير" (18/ 326) رقم (838) ، عن فرج بن سعيد ، عن عمه ثابت بن
سعيد ، عن أبيه سعيد .
وهذا الإسناد ضعيف
فيه علتان :
● العلة الأولى :
جهالة ثابت بن سعيد بن أبيض بن حَمَّال المأربي .
● العلة
الثانية : جهالة سعيد بن أبيض بن حَمَّال المأربي .
قال الذهبي : (سعيد بن أبيض بن حمال: فيه
جهالة)(9) .
المسلك الثاني : المسلك المتني :
وهذا المسلك فيه
وجهان :
الوجه الأول : اضطراب المتن :
لقد اضطرب
الرواة في متن هذا الحديث ، وهاك نقاط الاضطراب :
❍ أولاً : أورد الحديث أبو داود في سننه ، ولم يذكر في روايته الأسماء
العشرة .
فرواه عثمان بن
أبي شيبة ، وهارون بن عبد الله ، عن الحسن بن الحكم النخعي ، عن أبي سبرة النخعي ، عن
فروة بن مسيك بدون ذكر الأسماء !.
❍ ثانياً : جاء في رواية الترمذي المذكورة أعلاه : (لخم) ، وورد في بعض
الروايات في طريق أبي سبرة النخعي : (عَك)(10) !.
❍ ثالثاً : جاء في طريق البراء بن عبد الرحمن (قضاعة) بدل (غسان) !!(11) .
الوجه الثاني : نكارة المتن :
وتتضح نكارة
المتن من خلال النقاط التالية :
❍ أولاً : الحديث جعل أبناء سبأ عشرة :
والمعروف في كتب
الأنساب أن (سبأ) له ابنان هما (حِمْيَر) ، و(كهلان) .
ومن هنا حاول
بعض العلماء أن يجدوا حلاً لهذه المعضلة :
قال ابن كثير: (ومعنى قوله ﷺ : «وَلَدَ عَشْرَةً مِنَ العَرَبِ» : أي كان من
نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم وُلِدُوا
من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر ، كما هو مقرر
مبين في مواضعه من كتب النسب)(12) .
ولكن ظاهر
الحديث صريح أنه ولد عشرة أبناء ، فالأصل أنهم من صلبه ، ولا يوجد صارف لهذا الأصل .
❍ ثانياً : جعل (حِمْيَر) أخاً للتسعة أبناء المذكورين :
و(حِمْيَر) أمة
كبيرة من قحطان ، وهي بكل روايات الأنساب القديمة ليس أخاً لهؤلاء القوم . فكيف
يستقيم أن يكون حِمْيَر أخاً لهؤلاء ؟! .
❍ ثالثاً : الحديث لم يذكر اسم (كهلان) البتة في الأسماء :
طالما أن الحديث
ذكر (حِمْيَر) فإن المتبادر إلى الذهن أن يذكر (كهلان) باعتباره أخاً لحمير حسب
مشجرات الأنساب القديمة الواردة في كتب التاريخ ، ولكن نتفاجأ أن الحديث ذكر حمير ،
وذكر إخوانه قبائل منتسبة لكهلان ، ولم يتعرض لكهلان البتة ! .
❍ رابعاً : لم يذكر الحديث (همدان) مع أنها من سبأ :
لم يذكر الحديث
همدان مع أنها من قبائل سبأ الكبيرة والمعروفة ، ولم يتطرق الحديث لفروعها من حاشد
وبكيل .
✿ شواهد الحديث :
للحديث عدة
شواهد :
الشاهد الأول : حديث ابن عباس :
عن عبد الله ابن
عباس رضي الله عنهما، قال : «إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ سَبَأٍ مَا
هُوَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ أَرْضٌ؟ فَقَالَ : هُوَ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً
مِنَ الْوَلَدِ سِتَّةً مِنْ وَلَدِهِ بِالْيَمَنِ وَأَرْبَعَةٌ بِالشَّامِ ،
فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمَذْحِجٌ ، وَكِنْدَةُ ، وَالْأَزْدُ ،
وَالْأَشْعَرِيُّونَ ، وَأنْمَارُ ، وَحِمْيَرُ خَيْرٌ كُلُّهَا ، وَأَمَّا
الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ ، وَجُذَامُ ، وَعَامِلَةُ ، وَغَسَّانُ» .
أخرجه أحمد في
"المسند" (5/ 75) رقم (2898) ، وفي "فضائل الصحابة" (2/ 865)
رقم (1616) ، والحاكم في "المستدرك" (2/ 459) رقم (3585) ، والطحاوي في
"شرح مشكل الآثار" (8/453، 454) رقم (3378) ، وابن وهب في
"الجامع" (ص: 57) رقم (21) ، وابن عبد البر في "القصد والأمم في التعريف
بأصول أنساب العرب والعجم" (ص: 20) ، عن عبد الله بن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن
علقمة (أو عبد الرحمن) بن وعلة ، عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما .
وهذا الحديث
ضعيف ، فيه علتان :
❀ العلة الأولى : الحديث مداره على عبد الله بن لهيعة ، وهو ضعيف الحديث :
قال ابن عدي : (وهذا لا أعلمه يرويه غير ابن
لهيعة بهذا الإسناد)(13) .
وابن لهيعة هو :
عبد الله بن لهيعة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمي . وهو رجل ضعيف الحديث ، كانت له
كتب فاحترقت ؛ فحدث من حفظه فخلط ، فأصبح سيئ الحفظ .
وفي هذا الرجل
كلام كثير حول توثيقه وتضعيفه ، وكثير من العلماء لم يفصلوا في حاله ، بل ردوا حديثه
مطلقاً .
قيل لعبد الرحمن بن مهدي : نحمل عن ابن لهيعة ؟
قال : (لا ، لا تحمل عنه قليلاً ولا كثيراً)(14) .
وقال يحيى بن معين : (ابن لهيعة ليس بشيء ؛ تغير ،
أو لم يتغير)(15) .
وقال أبو زرعة وأبو حاتم : (أما ابن لهيعة فأمره
مضطرب ، يُكْتَب حديثه على الاعتبار)(16) .
❀ العلة الثانية : أن الإسناد فيه اختلاف واضطراب :
فقد اختلف في
إسناد هذا الحديث على ثلاثة وجوه :
❶ - عن عبد الله بن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن علقمة بن وعلة السبئي ، عن
ابن عباس ، عن النبي ﷺ .
وعلقمة هذا
مجهول .
➋ - عن عبد الله بن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي ،
عن ابن عباس ، عن النبي ﷺ .
➌ - عن عبد الله بن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن علقة بن وعلة السبئي عن
النبي ﷺ(17) .
وهذا فيه جهالة
علقمة والإرسال.
فأنت تجد هذا
الاضطراب الواضح في إسناد هذا الحديث ، وهذا كله يوضح لك ضعف الحديث .
الشاهد الثاني : حديث يزيد بن حصين بن نمير :
عن يزيد بن حصين
بن نمير أن رجلاً قال : يا رسول الله ، فذكر الحديث بنحوه .
أخرجه ابن
شَبَّة في "تاريخ المدينة" (2/ 551) ، وابن أبي خيثمة في "التاريخ
الكبير" (2/ 748) رقم (3165) ، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 245) ، (برقم:
639) ، وأبي نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2797) رقم (6633) ، وابن عساكر
في "تاريخ دمشق" (65/ 155) ، وابن عبد البر في "القصد والأمم في
التعريف بأصول أنساب العرب والعجم" (ص: 20) ، من طريق موسى بن علي بن رباح
اللخمي ، عن أبيه ، عن يزيد بن حصين بن نمير .
وهذا إسنادٌ
ضعيفٌ ، مليء بالعلل :
● العلة الأولى :
الصواب في رواية حصين بن نمير أنها مرسلة .
جاء في رواية
ابن أبي خيثمة عن يزيد بن حصين بن نمير ، عن تميم ، وفي رواية ابن عبد البر قال : (عن
تميم الداري) ، والصواب رواية الإرسال .
قال ابن عدي -عن يزيد بن حصين بن نمير : (لا أعرف
له من المسند شيئاً)(18) .
● العلة
الثانية : تميم لا يصح حديثه :
قال أبو نعيم : (تميم غير منسوب ، روى عنه يزيد بن
حصين في قصة سبأ ، وقيل إنه تميم الداري ، ولا يصح حديثه)(19) .
● العلة
الثالثة : حصين بن نمير ضعيف :
قال يحيى بن معين : (حصين بن نمير: ليس
بشيء)(20) .
● العلة
الرابعة : يزيد بن حصين بن نمير مجهول لا يعرف .
قال ابن عدي : (يزيد بن حصين أيضاً ليس
بمعروف)(21) .
✿ شبهات والجواب عنها :
✹ الشبهة الأولى: القول بتصحيح الحديث بمجموع الطرق والشواهد :
قال بعضهم : صحيح
إن هذه طرق الحديث كلها ضعيفة ، ولكنها تتقوى ببعضها ، ومعلوم في علم الحديث : أن
الحديث يتقوى بمجموع الطرق والشواهد ، فإذا ضُمَّت هذه الطرق إلى بعضها ، وأضيف
إليها شاهد حديث ابن عباس ازدادت قوة إلى قوة .
الجواب أن نقول :
القاعدة الحديثية في حد ذاتها صحيحة ، ونحن نقول بها ، ولكن هذا في حالة سلامة المتن
من النكارة والغرابة ، وأما مع وجود نكارة المتن ؛ فلا يمكن أن يُصَحَّح أو يُحَسَّن
الحديث بمجموع الطرق ؛ لأنه في هذه الحالة لا تفيد كثرة الطرق شيئاً ، بل ستذهب
أدراج الرياح !.
✹ الشبهة الثانية : تصحيح عدد من العلماء للحديث :
قال بعضهم : هذا
الحديث صححه وحسنه عدد من علماء الحديث ، وهاك أقوالهم :
قال الترمذي عن حديث فروة : (هذا حديثٌ حسنٌ
غريب) .
وقال الحاكم عن حديث ابن عباس : (هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ، وشاهده حديث فروة بن مسيك المرادي) ، وأقره الذهبي .
وقال ابن كثير : (وهذا إسناد حسن)(22) .
وقال أحمد شاكر عن حديث ابن عباس : (إسناده
صحيح)(23) .
وقال الألباني : (حسن صحيح) .
والجواب على ذلك
يكون من وجوه :
● الوجه الأول :
أن العلماء الذين صَحَّحُوا الحديث أو حَسَّنُوه قَوَّوْهُ بمجموع الطرق والشواهد ،
ولم يصححوه أو يحسنوه لذاته ، إذ أن طرقه كلها ضعيفة ، لا يثبت منها طريق واحد من
ضعفٍ . والتحسين بمجموع الطرق أقل درجات القوة في الحديث ، وهي مسألة تتجاذبها
الأقوال ، ولا تسلم من طعن أو اعتراض في كثير من الأحيان ، لأنها كما ذكرنا مبنية
على انجبار الطرق وتقويتها بعضها ببعض .
● الوجه الثاني :
أن هؤلاء العلماء الذين حسنوا الحديث إعمالاً لقاعدة تحسين الحديث بمجموع الطرق
والشواهد ، لم يتنبهوا لنكارة المتن ، ولم يتفطنوا للإشكالات الواردة فيه ، ولو
تنبهوا لذلك لما حَسَّنُوه ، ولذلك حينما فطن الإمام ابن العربي المالكي لعلل المتن
حكم بضعفه سنداً ومتناً .
● الوجه الثالث :
أن الحجة ليست في كثرة المصححين للحديث ، وإنما في الأدلة العلمية الحديثية التي
يستند عليها الحاكمون على الحديث ، والتي توجب صحته أو حسنه أو ضعفه .
● الوجه الرابع :
نتكلم عن كل حكم بمفرده :
إن قول الترمذي : (حسن غريب) ؛ هي درجة أقل من
قوله : (حديث حسن) ؛ ففي قوله هذا إشارة إلى غرابة متن الحديث وإسناده ، وإن تبنى
تحسينه بمجموع طرقه !.
وأما الحاكم : فمعروف بتساهله في التصحيح في
”المستدرك“ ، والذهبي وقعت له أوهام كثيرة في ”تلخيصه على المستدرك“ نبه عليها
العلماء من بعده .
وبالنسبة للقاضي أحمد شاكر : فإنه يصحح أحاديث
ابن لهيعة مطلقاً من غير تفصيل ، وهذا من تساهله الذي تكلم عنه العلماء كثيراً
أمثال المحدث الألباني والحويني وغيرهما .
وأما الألباني : فقد بنى حكمه على قاعدة التقوية
بالطرق والشواهد ، وقد بَيَّنَّا أن الحديث لا يمكن تصحيحه بالطرق والشواهد لوجود
النكارة المتنية !.
● الوجه الخامس :
أن عدداً من الحفاظ والمحدثين ضعفوا الحديث :
هذا الحديث
ضَعَّفَهُ جماعة من علماء الحديث وأساطين الجرح والتعديل ، وهم من هم في العلم
والتحقيق ، فإن لم يكونوا أعلم ممن صححوه فليسوا بأقل منهم. فإذا احتج المخالفون
بكلام العلماء الذين صححوا الحديث ، فنحن نحتج بكلام العلماء الذين ضعفوه. وعليه
فلا يكون كلام المخالفين حجة دون قولنا .
وهؤلاء هم
العلماء الذين ضعفوا الحديث :
✸ أولاً : الإمام ابن حبَّان ( ت : 354هـ ) :
حيث ذكر راوي
الحديث ( يحيى بن أبي حية ، أبو جناب، الكلبي ) في "كتاب المجروحين"
فضَعَّفَهُ ، وأورد له هذا الحديث كمثال على رواياته الضعيفة(24) .
✸ ثانياً : المحدث ابن القيسراني ( ت : 507هـ ) :
فقد أورد الحديث
طرف حديث أبناء سبأ في "تذكرة الحفاظ" ، وقال : (رواه يحيى بن أبي حية ، عن
يحيى ، عن هانئ ، عن فروة بن مسيك .
قال: ويحيى هذا
ليس بشيء في الحديث)(25) .
✸ ثالثاً : القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (ت: 543هـ) :
فقد حكم بضعف
الحديث سنداً ومتناً، فقال: (فيه اختلاف عظيم ، لم يتحصل سنداً ؛ لعدم الثقة برواية ،
ولا تحصل متناً)(26) .
✸ رابعاً : الحافظ نور الدين الهيثمي (ت: 807هـ) .
فقد ضَعَّف حديث
ابن عباس بقوله : (رواه أحمد والطبراني ، وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف ، وبقية رجالهما
ثقات (27) .
وضَعَّف كذلك
رواية يزيد بن حصين السلمي بقوله : (رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح غير شيخ
الطبراني علي بن الحسن بن صالح الصائغ ، ولم أعرفه)(28) .
✸ خامساً : المحدث أبو العباس البوصيري (ت: 840هـ) :
حيث تناول حديث
ابن عباس وأسانيده، وقال فيه : (ومدار هذه الأسانيد على عبد الله بن لهيعة، وهو
ضعيف)(29) .
الخلاصة :
أن (حديث أبناء سبأ العشرة) ضعيف
سنداً ومتناً ، وبالتالي لا يصح الاعتماد عليه في الأنساب ، ولا في نتائج الحمض
النووي الحديثة .
وختاماً أقول : هذا ما عندي حول الحكم على حديث
أبناء سبأ ، اجتهدتُ فيه قدر الطاقة ؛ فإن أصبت فمن الله تعالى ، وإن أخطأت فمن نفسي
والشيطان والله ورسوله منه بريئان ، وأرحب بالتعليق والتعقيب العلمي ، وصدري مفتوح
للحوار والنقاش في هذا الموضوع بشرط أن يكون الناقد يتكلم بعلم ومعرفة ، لا بجهل
وتقليد .
وقد كنت متردداً بين التطويل والتقصير في
الدراسة ، وما زلت أتأرجح بينهما؛ فالمهتمون بالدراسات الحديثية يحبون الإسهاب في
ذلك ، وغيرهم من المهتمين بالتاريخ والأنساب يحبون الاقتضاب ؛ لأن غايتهم الخلاصة
فقط ؛ فحاولت أن أتوسط في ذلك ، فلا أطيل ولا أقصر ؛ فإن وجد بعض القراء في كلامي
طولاً فليعذرني ، وإن وجد البعض الآخر قصراً فليعذرني هو الآخر .
وأنبه إلى أنني لم أتوسع كثيراً في ذكر الأقوال
عن الرواة جرحاً وتعديلاً ، وذكرت ما يهم في الحكم عليهم ، فعلتُ ذلك خشية الإطالة
والإملال ؛ خصوصاً لغير الباحثين في العلوم الشرعية .
كما أني استبعدت إدخال نتائج الحمض النووي في
الحكم المتني على الحديث ؛ لأني ، وإن كنت على يقين مما أراه في النتائج الجينية ؛
فإن هذا العلم ما زال حديثاً وفي مهده ونتائجه متجددة، وكذلك لا أريد أن يقال : حكم
على حديث رسول الله ﷺ بنتائج الحمض النووي !.
هذا وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب
العالمين.
✿ الهوامش :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن
أبي حاتم في ”الجرح والتعديل“ (9/ 384)، وانظر: “تهذيب الكمال“ (33/ 340).
(2) ”تقريب
التهذيب“ (ص: 643).
(3) ”المجروحين“
(1/ 233).
(4) ”ديوان
الضعفاء“ (ص: 79).
(5) ”تقريب
التهذيب“ (ص: 160).
(6) ”المجروحين“
(3/ 111).
(7) ”المجروحين“
(3/ 111).
(8) ”الأباطيل
والمناكير“ (1/ 524).
(9) ”ميزان
الاعتدال“ (2/ 126).
(10) هذه رواية
أحمد في ”المسند“ (39/ 528) رقم (87).
(11) هذه رواية
الطبراني في ”مسند الشاميين“ (1/ 259) رقم (448).
(12) ”تفسير ابن
كثير“ (6/ 447).
(13) ”الكامل في
ضعفاء الرجال“ (5/ 251).
(14)
"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 146).
(15) "من
كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال" (ص: 108).
(16)
"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 147).
(17) ”المعجم
الكبير“ للطبراني (12/ 240) رقم (12992).
(18)
"الكامل في ضعفاء الرجال" (9/ 170).
(19)
"معرفة الصحابة" (1/ 458).
(20)
"تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 57).
(21)
"الكامل في ضعفاء الرجال" (9/ 170).
(22) ”تفسير ابن
كثير“ (6/ 445).
(23) ”مسند
أحمد“ بتحقيق أحمد شاكر (3/ 278).
(24) المجروحين
(3/111، 112)
(25) تذكرة
الحفاظ (ص: 66).
(26) عارضة
الأحوذي (12/ 101).
(27) مجمع
الزوائد (7/ 94).
(28) مجمع
الزوائد (7/ 94).
(29) إتحاف الخيرة المهرة (1/ 262).
انتهى ..
أبو سهل طَـه الطَّيب الزَّيَّـاتي